/ الفَائِدَةُ : (13) /
09/04/2025
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / المُحْكَم واليقين والحُجَج والظُّنون على طبقات لا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتها / هناك ملحمةٌ فكريَّةٌ ومَعْرِفِيَّةٌ وعقائديَّةٌ لطالما أَكَّدت عليها بيانات الوحي، حاصلها: أَنَّ المُحْكَم والإِحْكَام والمُحْكَمَات واليقين والحُجَج، بل والظُّنون على مراتب ودرجات، والوعي والمَعْرِفة بأَصل المُحْكَم والإِحْكَام والمُحْكَمَات والحُجَج واليقين والظُّنون من دون الاِلتفات إِلى سلسلة مراتبها يلزم منه الوقوع في الزَّيغ والضَّلال والْاِنْحِرَاف في مقام الْاِسْتِدْلَاَلِ وتحصيل النتائج؛ لأَنَّ التَّشَبُّث والتَّمسُّك بحُجِّيَّةِ حُجَّةٍ بتعميمٍ مُطلقٍ من دون معرفة رتبتها ودرجتها في الحُجِّيَّةِ يكون من باب التَّمسُّك بالظَّنِّ والمُتشابه، فالدَّليل وإِنْ كان بنفسه مُحْكَماً وقد يُوْرِث اليقين لكنَّه في قِبال ما هو أَحْكَم منه وأَيقن يكون ظنّاً ومُتشابهاً . إِذَنْ : المُحْكَم والإِحْكَام والمُحْكَمَات والحُجَج واليقين والظُّنون على طبقاتٍ ومراتبٍ، وحينئذٍ لابُدَّ من عَرْضِ الطَّبقةِ والمرتبةِ النَّازلةِ والأَضعفِ على الطبقةِ والمرتبةِ الصَّاعدةِ والأَقوىٰ، وإِلَّا فارتطام بالزيغ والضَّلال والْاِنْحِرَاف . وبالجملة : مَعْرِفَة أَصل الحُجَج الدِّينيَّة لا تشفع في نجاةِ المخلوق في سائر العوالم لاسيما الصَّاعدة ، بل لا بُدَّ أَنْ يُضَمَّ إِليها مَعْرِفَة سلسلة مراتبها ، بل ويُضَمُّ إِليها مَعْرِفَة نظامها ومنظومتها، فهناك محاور وحيثيَّات مَعْرِفِيَّة أَربع : الأُوْلىٰ : مَعْرِفَة أَصل المُحْكَم والإِحْكَام والمُحْكَمَات والحُجَج الدِّينيَّة واليقين والظُّنون، أَي: مَعْرِفَة أَصل حلقاتها. الثَّانية : مَعْرِفَة مراتب وتراتب المُحْكَم والإِحْكَام والمُحْكَمَات والحُجَح واليقين والظُّنون. الثَّالثة : مَعْرِفَة نظام المُحْكَم والإِحْكَام والمُحْكَمَات والحُجَج واليقين والظُّنون. الرَّابعة : مَعْرِفَة منظومة المُحْكَم والإِحْكَام والمُحْكَمَات والحُجَج واليقين والظُّنون. / اِتِّضاح سبب كثير من الأَزَمات الفكريَّة والمَعْرِفِيَّة / ثُمَّ إِنَّ مَنْ يُدقِّق نظره في الأَزمات والتشرذمات الفكريَّة والمَعْرِفِيَّة والعقائديَّة ونشوء الفِرَق واختلافها، بل والخروج عن مسار الوسطيَّة على مرِّ الدُّهور والأَزمان فسيجدها ناشئة من عدم المَعْرِفَة بهذه المحاور والحيثيَّات أَو بعضها، ومن ثَمَّ عاتب الباري تعالىٰ بني إِسرائيل في بيان قوله جلَّ شأنه : [وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا] (1) ؛ فإِنَّهم ادعوا قتل النَّبي عيسىٰ عليه السلام اِعْتِمَاداً على الحسِّ والمشاهدة ، لكنَّه عَزَّ وَجَلَّ سماهما ظنّاً متشابهاً ، وطعن عليهم باتِّباعهم لهمـا ؛ فإِنَّ الحسّ والمشاهدة وإِنْ كانا في نفسيهما يُفيدان درجة من الْعِلْمِ ـ ما لم يُعَارَضَا بنوع يقين أَرفع منهما ـ، لكنَّه بعدما عُوْرِضَا بيقينٍ أَرفع منهما وأَرقىٰ حُجِّيَّة أَصبحا ظنّاً متشابهاً لا يصحّ الْاِعْتِمَاد عليه في أُصول العقائد ، فَبَنِي إِسرائيل شاهدوا معاجز صدرت من النَّبيّ عيسىٰ عليه السلام أَورثت لهم يقيناً وحيانيّاً بنبوَّته ، وهو فوق اليقين العقلي فضلاً عن اليقين الحسِّي ، وقد أَخبرهم عليه السلام : أَنَّه سيبقىٰ حيّاً إِلى ظهور الإِمام الحُجَّة ابن الحسن عجل الله تعالى فرجه ، وهذه معجزة ، لكنَّهم لم يتَّبعوها؛ لتركهم قول صاحب المعجزة، واتَّبعوا الحسّ والمشاهدة ؛ فإِنَّهما وإِنْ كانا يُوْرِثَان الْعِلْمِ واليقين والحُجِّيَّة أَيضاً لكنَّهما بالقياس إِلى مخالفة ما هو أَقوىٰ حُجَّة من المعاجز واليقين الوحياني صارا ظنّاً متشابهاً. ومنه ينحل ما تبلبل فيه الرَّازي وتحيَّر في تفسير بيان هذه الآية الكريمة ؛ فإِنَّه ذکر مراراً وفي مواردٍ : أَنَّ هذه الآية الكريمة تُحَيِّر العقول؛ فإِنَّه كيف أَبطل الباري عَزَّ وَجَلَّ الحسّ وجعله ظنّاً وشبهةً مع أَنَّه من اليقينيَّات، ويلزم من ذلك بطلان التواتر في الشَّرائع والأَديان؛ فإِنَّ منشأه الحسّ؟! وهذا من أَشكل المشكلات. فلاحظ عبارته في هذا المورد : « واعلم أنه تعالى لما حكى عن اليهود أنهم زعموا أنهم قتلوا عيسى عليه السلام فالله تعالى كذبهم في هذه الدعوى وقال : (ومال قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) . وفي الآية سؤالان : السؤال الأول : ... السؤال الثاني : أنه إن جاز أن يقال: أن الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر فهذا يفتح باب السفسطة، فإنا إذا رأينا زيدا فلعله ليس بزيد، ولكنه ألقى شبه زيد عليه، وعند ذلك لا يبقى النكاح والطلاق والملك، وثوقا به، وأيضا يفضي إلى القدح في التواتر لأن خبر التواتر إنما يفيد العلم بشرط انتهائه في الآخرة إلى المحسوس، فإذا جوزنا حصول مثل هذه الشبهة في المحسوسات توجه الطعن في التواتر، وذلك يوجب القدح في جميع الشرائع ... وبالجملة ففتح هذا الباب يوجب الطعن في التواتر، والطعن فيه يوجب الطعن في نبوة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهذا فرع يوجب الطعن في الأصول فكان مردودا. والجواب : اختلفت مذاهب العلماء في هذا الموضع وذكروا وجوها : الأول : ... الثاني : ... الثالث : ... الرابع : ... . وهذه الوجوه متعارضة متدافعة والله أعلم بحقائق الأمور »(2) . وجوابه قد اِتَّضح ؛ فإِنَّ الحسّ والمشاهدة وإِنْ كانا في نفسيهما يفيدان اليقين، لكنَّهما إِذا عُوْرِضَا بما هو أَعظم منهما حُجَّة، كالمعجزة ـ وَأَحد معاجز النَّبي عيسىٰ عليه السلام : أَنَّه أَخبر قومه بأَنَّه لم يُقتل ويبقى حيّاً ويُصَلِّي خلف الإِمام المهدي عجل الله تعالىٰ فرجه ـ صارا ظنّاً وشبهة؛ فبيان الآية الكريمة ليس في صدد إِبْطَال مُطلق حُجِّيَّة الحسّ والمشاهدة ـ ؛ كيما يرد ما ذكره الرازي ـ ، بل في صدد إِبْطَال حُجِّيَّتهما في قِبَال الْمُعَارِض الأَعلى منهما حُجَّة ويقيناً، فكُلّ قطعٍ ويقينٍ ظنّ متشابه بالقياس إِلى الْمُعَارِض الأَعلى منه رتبة، ويشمله بيان قوله عزَّ قوله : [وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا] (3) ، وبيان قوله جلَّ قوله : [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ] (4). ومن كلِّ هذا يتَّضح : أَنَّ الاطِّلاع على نظام مراتب الحُجَج وتطبيقاتها على مواردها أَمْرٌ بَالِغُ الأَهَمِّيَّةُ والثَّمرةُ. إِذَنْ : مَعْرِفَة هذه المحاور والحيثيَّات الأَربع ، بل ومَعْرِفَة مراتب طبقات غايات الدِّين أَمْرٌ بَالِغُ الأَهَمِّيَّةُ والْخُطُورَةُ والثِّمَارُ في الدِّين والشَّريعة ، ومن ثَمَّ مَنْ يجعل ـ لا سيما أَهل الْعِلْم والفضيلة ـ الأَصل فرعاً ، والفرع أَصلاً ـ كما يحدث أَحياناً ـ فهذا ـ واقعاً ـ كارثة عِلْمِيَّة ومَعْرِفِيَّة وفي بصيرة الدِّين ، ومن ثَمَّ روىٰ الفريقان : أَنَّ سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله نادىٰ أَحد الصحابة فلم يجبه ؛ لكونه كان مشتغلاً بصلاته ، ولَـمَّا سأَله صلى الله عليه واله عن سبب عدم إِجابته اعتذر بذلك . ومعناه : أَنَّه قدَّم أَهَمِّيَّة الصَّلاة ـ وهي من فروع الدين ـ على أَهَمِّيَّةِ الْاِسْتِجَابَةِ لنداء سیِّد الأَنبیاء صلى الله عليه واله ، وهو من أُصول الدِّين . وهذا يُدلِّل على مدىٰ نكوس وانحطاط مَعْرِفَة هذا الصحابي . فانظر: 1ـ ما ورد عن أَبي سعيد بن المُعلَّىٰ، قال: « كُنتُ أُصلِّي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه واله فلم أُجبه، فقلتُ: يا رسول الله إِنّي كُنتُ أُصلِّي، فقال: «أَلَم يقُل اللّٰـه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ] (5)» (6) . 2ـ ما ورد عن أَبي هريرة: «أَنَّ رسول الله صلى الله عليه واله خرج على أُبيِّ بن كعب ، فقال رسول اللّٰـه صلى الله عليه واله : «يا أُبيّ»، وهو يصلِّي ، فالتفت أُبيّ ولم يجبه ، وصلَّىٰ أُبيّ فخفَّف ، ثُمَّ انصرف إِلى رسول الله صلى الله عليه واله ، فقال : السَّلام عليكَ يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه واله : «وعليك السَّلام ، ما منعك يا أُبيّ أَنْ تجيبني إِذ دعوتكَ ؟!» ، فقال : يا رسول الله ، إِنِّي كنتُ في الصَّلاة ، قال : «أَفَلَم تجد فيما أُوحي إِلَيَّ : [اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ]؟» . قال : بلى ، ولا أَعود إِنْ شاء الله ...» (7). بينما فعل صلى الله عليه واله نفس ذلك الأَمر مع صحابي آخر، فقطع صلاته وأَتاه ، وحينما سأله صلى الله عليه واله عن سبب قطعه لصلاته أَجاب : استجابة لندائكَ يا رسول الله ؛ فإِنَّه الأَصل ، وهو الأَهمُّ والأَعظمُ والأَخطرُ. / نُكْتَةُ ردّ الشَّمس لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ / ومنه تتَّضح : نُكْتَةُ وفلسفة إِحدى فضائل ومناقب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وهي : حادثة ردّ الشَّمس إِليه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وهذه معجزة عظيمة حصلت في الكون نتيجة هذه المعرفة وعلوّ بصيرته صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ غير المتناهية ؛ شكر الله تعالىٰ له مما قام به وعلى عظيم معرفته بسيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله ؛ فإِنَّه ترك صلاته ولم يأتِ بها حتَّى عن قعودٍ ، بل لم يتحرَّك ؛ وقاية وحفاظاً على راحة سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله ، فقدَّم راحته صلى الله عليه واله على الصَّلاة مع أَنَّه عليه السلام أَعبد العابدين . ومعناه : أَنَّ التقرُّب للّٰـه عَزَّ وَجَلَّ براحة سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله أَقرب وأَحَبُّ إِليه جلَّ وتقدَّس من التَّقَرُّب والتحبُّب إِليه بصلاة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ؛ مع ما لصلاته صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ من عظمةٍ وأَهَمِّيَّةٍ وخطورةٍ . وهذه حادثةٌ مسلَّمةٌ رواها الفريقان . فلاحظ: البيانات النَّاقلة لهذه الحادثة ، منها : بيان أَمير المؤمنين عليه السلام : « كُنْتُ أَنا ورسول الله صلى الله عليه واله قاعدين ... إِذْ وضع رأسه في حجري ثُمَّ خفق حتَّى غطَّ ، وحضرت صلاة العصر، فكرهتُ أَنْ أُحَرِّكَ رأسه عن فخذي ؛ فأَكون قد آذیتُ رسول الله صلى الله عليه واله حتى ذهب الوقت وفاتت [الصَّلاة] فانتبه رسول الله صلى الله عليه واله فقال : يا عَلِيّ ، صلَّيتَ؟ فقلتُ : لا، فقال : ولِمَ ذاك؟ قلتُ : كرهتُ أَنْ أُوذيكَ . قال : فقام واستقبل القبلة ومدَّ يديه كلتيهما وقال : اللَّهُمَّ ردَّ الشَّمس إِلى وقتها حتَّى يُصَلِّي عَلِيّ ، فرجعت الشَّمس إلى وقت الصَّلاة حتَّى صلَّيتُ العصر ثُمَّ انقضَّت انقضاض الكوكب» (8) . ومن جملة ما تقدَّم يتَّضح : أَوَّلاً : أَنَّ العقائد بعدما كانت يقيناً عَقْلِيًّا فلا يفيد معها اليقين الحسِّي ـ كالتواتر الحسِّي ـ ، وهذه قَضِيَّةٌ مُبَدَّهةٌ في كافَّة العلوم : المنطقيَّة والعَقْلِيَّة، ومن ثَمَّ جعل اليقين الحسِّي في عَرْضِ وفي مرتبة اليقين العَقْلِي جهالة عِلْمِيَّة وفي المَعْرِفِة ، وكفر وإِلحاد عِلْمِيّ في مراتب الحُجَج والمعرفة، فلذا ذكر الشَّيخ الأَنصاري في نهاية مبحث الْاِنْسِدَاد في تنبيهات : (دور صدور الروايات في العقائد) : أَنَّ جملة علماء الأُصول ذكروا : أَنَّ دور الصدور وحُجِّيَّته ليس بُنيَة أَصليَّة في مقام الْاِسْتِنْبَاط واستخلاص النتائج ، وإِنَّما إِعداد ومُعِد، والعمدة هو : صحَّة وحُجِّيَّة المتن والمضمون. ثانياً : أَنَّه مَنْ يجعل اليقين ستَّة أَقسام فقد وقع في مسامحة واشتباه خطير، والحقُّ : أَنَّه على مراتب ودرجات لا تُحصىٰ. / اليقين الحسِّي أَنزل مراتب اليقين / ثُمَّ إِنَّ أَنزل مراتب اليقين هو اليقين الحسِّي ؛ لكون عَالَم الحسِّ الغليظ أَنزل عوالم الخلقة ، ومحدود بالقياس إِلى ما فوقه من العوالم ، وطبيعة قواه في الإِدراك ليست مُسَلَّحة ، ومداها ضعيف ، بخلاف اليقين العقلي ، بل واليقين الوهمي ، بل واليقين الخيالي المستفاد من عَالَم المثال ؛ والذي رُبَما يُعبَّر عنه بـ : (الحسِّ الباطن). وبالجملة : يقين القوىٰ الباطنة أَقوىٰ بكثيرٍ من يقين الحسِّ الظاهر؛ لأَنَّه بعدما كانت باطنة كانت خفيَّةً فتكون أَشَدُّ قوَّة وأَوسع مدىٰ من نظام الحسّ الظَّاهر، بل إِدراك قوىٰ الإِدراك الظَّاهر لدىٰ الإِنسان وسائر المخلوقات لا تكون إِلَّا بتوسُّط القوىٰ الباطنة الخفيَّة في ذوات أَنفسها وأَرواحها. ومنه يتَّضح : أَنَّ كُلَّ العلوم ـ كعِلْمِ : الفيزياء، والكيمياء، والأَحياء، والطب، والرِّياضات، والهندسة ـ وكُلَّ القواعد والمعادلات في شتَّىٰ العلوم ؛ والَّتي تتحكَّم بجملة عوالم الكون ومخلوقاتها أُمورٌ لا تُدرَك بالحسِّ الظَّاهر، بل تُدرك بالحسِّ الباطن والخفي ، نعم بالحسِّ الظَّاهر تُدرَك آثارها . ومعناه : أَنَّ العلوم والمعارف أُمورٌ ومخلوقات غيبيَّة غير مرئيَّةٍ ، ولا تُدرَك ولا تشاهد بالحسِّ الظَّاهر. ومن كُلِّ ما تقدَّم يتَّضح : أَنَّ عَالَمَ الحسّ واليقين الحسِّي إِذا كانت هذه مدياته ومستوياته كيف يُمكن به إِثبات حقائق الوحي ، وحقائق بياناته ، بعدما كان الوحي من عوالمٍ غيبيَّةٍ خطيرةٍ وعظيمةٍ ومهولةٍ صَّاعدةٍ . وصلى الله على محمد واله الاطهار . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) النساء : 157 . (2) التفسير الكبير،ج 11 ، سورة النساء، آية (١٥٧)، ص: 99 ـ 100. (3) يونس : 36 . (4) آل عمران : 7 . (5) الأَنفال : 24 . (6) البخاري ، 4 : 1623/ح4204 . (7) البخاري ، 4 : 1738/ح4426 . (8) بحار الأَنوار، 41 : 182ـ183/ح19 . فروع الكافي ، 4 : 561ـ 562